في أعماق المحيطات، بعيدًا عن الأعين والرادارات، تبحر غواصة بريطانية لا يعرف أحد وجهتها بدقة.
هذه الغواصة تحمل في جوفها عشرات الرؤوس النووية القادرة على تدمير مدنٍ بأكملها خلال دقائق، لكنها ليست أداة حرب بقدر ما هي أداة ردعٍ صامتة تضمن بقاء المملكة المتحدة على خريطة القوى النووية العالمية.
- واشنطن تكشف سلاحها الخفي.. أول اختبار لصاروخ كروز نووي متطور
ووفقا لمجلة ناشيونال إنترست، تبنّت لندن منذ أكثر من نصف قرن، عقيدةً دفاعية تقوم على فكرة واحدة بسيطة، أن الردع لا يحتاج إلى ضخامة، بل إلى مصداقية.
فبينما تتباهى واشنطن وموسكو بترسانات نووية هائلة، وتستعرض بكين صواريخها العابرة للقارات، تكتفي بريطانيا بأسطولٍ صغير يضم أربع غواصات فقط.
لكن هذه القوة المحدودة قادرة – بفضل التكنولوجيا الدقيقة والتصميم الاستراتيجي – على ضمان ما يُعرف في العقيدة النووية باسم “الضربة الثانية المضمونة”.

يعتمد الردع البريطاني على مبدأ “الحد الأدنى الموثوق” – أي امتلاك أقل قدرٍ ممكن من القوة النووية الكافية لردع أي هجوم محتمل. فالقوة في نظر لندن لا تُقاس بعدد الصواريخ، بل بمدى استعداد العدو للإيمان بأن الردّ سيكون حتميًا إن أقدم على أي مغامرة نووية.
منظومة “فانغارد” و”ترايدنت”
على عكس القوى النووية الكبرى التي تعتمد على ما يُعرف بـ “الثالوث النووي” — مزيج من الصواريخ الأرضية والغواصات والطائرات – اختارت بريطانيا أن تُركّز قدراتها في عنصرٍ واحد فقط: البحر.
هذا الخيار الاستراتيجي تبلور في منظومة “ترايدنت”، وهي صواريخ باليستية أمريكية الصنع من طراز ترايدنت تُحمَل على متن غواصات من فئة “فانغارد”.
كل غواصة من هذا الطراز مزودة بـ16 أنبوب إطلاق، لكنها لا تحمل العدد الأقصى الممكن من الصواريخ أو الرؤوس النووية. فالحكومة البريطانية تفرض قيودًا صارمة لضمان ما تسميه بـ الردع الأدنى الموثوق – توازنٌ دقيق يجمع بين القدرة العسكرية والمسؤولية السياسية.
وتخضع صواريخ ترايدنت البريطانية لاتفاقية تعاون وثيقة مع البحرية الأمريكية، حيث يتم تخزينها وصيانتها ضمن برنامج مشترك يوفّر الكفاءة التقنية ويقلّل التكلفة، مع احتفاظ لندن بالتحكم الكامل في قرار الإطلاق.
وكل صاروخ من طراز ترايدنت قادر على حمل عدة رؤوس نووية مستقلة التوجيه، أي يمكنه استهداف مدنٍ متعددة في آنٍ واحد.
أما الرؤوس النووية نفسها فيجرى تطويرها وصيانتها داخل بريطانيا من خلال مؤسسة الأسلحة الذرية في موقعي “ألديرماستون” و”بورغفيلد”.
ورغم تشابهها الهيكلي مع التصاميم الأمريكية، فإنها تُعدّ مستقلة تقنيًا وسياسيًا، إذ تخضع كليًا لسلطة القيادة البريطانية. وتعمل لندن حاليًا على تطوير جيلٍ جديد من الرؤوس النووية بالتوازي مع مشروع الغواصات الجديدة من فئة “دريدنوت” التي يُتوقَّع أن تبدأ مهامها في ثلاثينيات هذا القرن، خلفًا للغواصات الحالية.
“الردع المستمر في البحر”… عقيدة بريطانية فريدة
في قلب العقيدة النووية البريطانية يقف مبدأ “الردع المستمر في البحر”، الذي يضمن أن تكون هناك دائمًا غواصة نووية واحدة على الأقل في دوريةٍ سرية في مكانٍ غير معلوم من محيطات العالم.
فحتى في أسوأ السيناريوهات – إذا تعرّضت المملكة المتحدة لضربةٍ نووية مدمّرة – فإن تلك الغواصة ستظل قادرة على تنفيذ الرد الانتقامي، وهو ما يجعل فكرة الهجوم الأول غير مجدية تمامًا لأي خصم محتمل.
تحاط دوريات الغواصات بسرية تامة، فمواقعها ومساراتها لا يعلمها سوى قلة من كبار الضباط. وبروتوكولات الاتصال مصمّمة لتحمّل النبضات الكهرومغناطيسية النووية. ومنظومات الدفع الصوتي الهادئ والتغليف السمعي تجعل اكتشافها شبه مستحيل.

تستخدم غواصات “فانغارد” نظام دفع متطورًا يعرف بـ”المضخة النفاثة” يقلل الضوضاء إلى أدنى حد، ويمنحها قدرةً على التخفي لا تضاهيها سوى الغواصات الأمريكية الحديثة.
أما صواريخ “ترايدنت”، فتوصف بأنها من أدق الصواريخ الباليستية في العالم، بمدى يتجاوز 7000 كيلومتر وقدرة إصابة تُقاس بعشرات الأمتار فقط.
الردع ليس بالحجم
تكمن قوة الترسانة النووية البريطانية في محدوديتها المدروسة. فغواصة واحدة في الخدمة تحمل من الرؤوس النووية ما يكفي لتدمير معظم المراكز الحضرية في أي دولة معتدية.
وفي حال وقوع ضربةٍ نووية ضد المملكة المتحدة، فإن الردّ البريطاني – وإن لم يُفْنِ الخصم بالكامل – كفيل بإحداث دمارٍ غير مقبول سياسيًا وإنسانيًا، وهو ما يجعل فكرة الهجوم الأول محسومة سلفًا لصالح الردع.
ومن وجهة نظر استراتيجية، يمنح هذا الأسلوب بريطانيا استقلالًا سياسيًا داخل منظومة الناتو. فهي لا تعتمد كليًا على المظلة النووية الأمريكية، بل تحتفظ بقدرتها المستقلة على الرد، وهو ما يمنحها مكانة خاصة بين الحلفاء.
في المقابل، لا تخلو العقيدة البريطانية من المخاطر. فالاعتماد الكلي على قوة بحرية صغيرة يجعل النظام عرضة للاضطرابات الفنية أو الحوادث المحتملة. لكن الخبراء يؤكدون أن منظومة الردع المستمر في البحر أثبتت كفاءتها لعقود دون انقطاع، ما يعزز صورتها كأكثر برامج الردع النووي استقرارًا واستمرارية في العالم الغربي.
aXA6IDE5OS4xODguMjAxLjIzMyA=
جزيرة ام اند امز


