fbpx
فرنسا: تعديل وزاري يطيح بالوزير الأسود الوحيد

فرنسا: تعديل وزاري يطيح بالوزير الأسود الوحيد

مثلما كان مرتقبا، شهدت فرنسا تعديلا وزاريا محدودا لا يتناول الحقائب السيادية أو الاقتصادية الرئيسية، ولن يغير شيئا في سياسة الحكومة التي بقيت إليزابيت بورن على رأسها. والأهم أنه لم يدخل الرئيس إيمانويل ماكرون إليها عناصر جددا من حزب «الجمهوريون» اليميني، بحيث ستبقى فاقدة لدعم أكثرية مضمونة الولاء في البرلمان، ما يعني استمرار المساومات لدى تقديم أي مشروع قانون جديد إليه. والخائب الأول من بقاء بورن هو وزير الداخلية، جيرالد درامانان، الذي كان يمني النفس بالحلول محلها.

بيد أن الضحية الرئيسية للتعديل الوزاري اسمه باب نديا، الوزير الأسود الوحيد في الحكومة الثانية التي شكّلتها إليزابيت بورن بطلب من الرئيس ماكرون في 20 مايو (أيار) من العام الماضي. وبعد 14 شهرا على تسلمه وزارة التربية والتعليم، أخرج باب نديا من الوزارة والحكومة، وأعطيت حقيبة التربية للوزير الشاب غابريل أتال البالغ من العمر 34 عاما الذي كان يشغل حقيبة الميزانية وقبلها ناطقا باسم الحكومة.

تعيين استثنائي

بداية، تتعين الإشارة إلى أن تشكيل الحكومات في فرنسا منذ بداية الجمهورية الخامسة، يتم ما بين رئيسة الحكومة ورئيس الجمهورية. الأولى تقترح، والثاني يوافق أو يرفض. لكن الواقع العملي هو أن خيوط اللعبة بمجملها تُدار من قصر الإليزيه. ولذا، كان تعيين باب نديا بمثابة رسالة «انفتاح» من ماكرون، مفادها أن أعلى وظائف الجمهورية مفتوحة أمام الجميع. وبما أن فرنسا لا تعترف بالأقليات كما هو الحال في بريطانيا أو الولايات المتحدة الأميركية، فإن «الجدارة» و«الكفاءة» هما المعيار لولوج الوزارة. وبالفعل، يستحق باب نديا المنصب الذي أوكل إليه. فهذا الرجل المولود في عام 1965 في مدينة أنطوني، الواقعة على بعد 10 كلم من باريس، من أب سنغالي وأم فرنسية، «جدير» و«كفوء»، إذ إنه خريج أفضل الجامعات الفرنسية والأميركية وأكاديمي وأستاذ جامعي ومؤرخ وصاحب الكثير من المؤلفات وناشط اجتماعي. وقبل تعيينه وزيرا، كان، من بين الوظائف التي كان يشغلها، أستاذ جامعي في معهد الدراسات السياسية في باريس، وهو المعهد الذي يخرج النخبة ومدير لـ«المعهد الوطني لتاريخ الهجرات» إلى فرنسا.

ماكرون ترأس اجتماعا في قصر الإليزيه بعد التعديل الحكومي الجمعة (إ.ب.أ)

جاء تعيين باب نديا وزيرا للتربية والشباب بمثابة «مفاجأة» ماكرونية، إذ حل، عقب جان ميشال بلانكيه، وزيرا للتربية، أي بعد وزير كان يميل بأفكاره، بوضوح كامل، إلى الفكر اليميني وأحيانا أكثر من ذلك. أما باب نديا، فإنه يمثل النقيض الفكري والآيديولوجي لبلانكيه. باب نديا الذي كرس الكثير من أعماله الأكاديمية لدراسة التمييز العنصري الذي يتعرض له السود في فرنسا، كما في الولايات المتحدة الأميركية، كان قريبا من الحزب الاشتراكي الفرنسي.

لذا، فإن تعيينه قوبل بارتياح إن كان من التيار اليساري بشكل عام، وأيضا من الجسم التعليمي. إلا أنه تعرّض لانتقادات حادة من اليمين التقليدي وخصوصا من اليمين المتطرف. وطيلة الأشهر الـ14 المنقضية، كان وزير التربية هدفا لسهام اليمين. ويوم تعيينه وزيرا، هاجمته مارين لوبن عادة أنه يمثل «آخر لبنة في هدم بلدنا وقيمه ومستقبله».

منذ ما قبل تعيينه، عبّر باب نديا عن مواقف تتعارض مع مقاربة اليمين للمسألة العرقية والتمييز العنصري. فقد أكد في مقابلة مع صحيفة «لوموند» في شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2017 أن فرنسا «ليست دولة عنصرية»، ولكنها «تعاني من ممارسات ومن عنصرية بنيوية في بعض أجهزتها مثل الشرطة». وجاء مقتل المراهق نائل المرزوقي في 27 يونيو (حزيران) الماضي، الأمر الذي تسبب في اندلاع أعمال عنف وشغب دامت ست ليال، ليبين بعضا من حقيقة هذه الممارسات.

عام من «المرارة»

لم تتأخر عملية التسلم والتسليم بين الوزير المرحل والوزير الوافد، إذ إنها تمت بعد دقائق قليلة من البيان الصادر عن قصر الإليزيه. وكما هي العادة، فقد تجمّع العاملون في الوزارة كبارا وصغارا للاستماع للكلمة الوداعية لباب نديا، وإلى جانبه غابرييل أتال. واستغل الأول المناسبة ليقول إنه يغادر منصبه «دون مرارة» لكنه ندد، من غير أن يسمي اليمين، بـ«باعة الحقد» وبـ«القوى» التي استهدفته طيلة أكثر من عام.

وزيرا التعليم الفرنسي السابق (يمين) والجديد في باريس الخميس (أ.ف.ب)

ولم يتردد في وصف ما عاشه بأنه «العام الأكثر مرارة» بسبب «التحقير» الذي عانى منه. ولعل ما عد خطأ ارتكبه باب نديا أنه وصف القناة الإخبارية «سي نيوز» التي يمتلكها رجل الأعمال فانسان بولوريه بأنها «بوق لليمين المتطرف»، الأمر الذي عرضه لهجمات سياسية من اليمين بالطبع، ولكن الأسوأ أنه لم يلق دعما من زملائه الوزراء، علما أن الجميع في فرنسا يعي أن «سي نيوز» تروج للفكر اليمين المتطرف وأنها كانت المنصة التي استغلها المرشح الرئاسي أريك زيمور، صاحب نظرية «الاستبدال»، أي استبدال أفواج المهاجرين وغالبيتهم من المسلمين بالفرنسيين وبخسارة فرنسا لهويتها المسيحية والأوروبية.

أما النائب أريك سيوتي، رئيس حزب «الجمهوريون» اليميني التقليدي، فتساءل: «ما الذي أنجزه باب نديا في حياته ومن أجل أمتنا باستثناء أنه سعى إلى هدمها؟». وحده ماكرون هبّ لمساعدته، ولكن متأخرا حين أعلن أنه «يحق للوزراء كما لباقي المواطنين حرية التعبير عن آرائهم». لكن دفاع الرئيس الفرنسي لم يصل إلى حد التمسك ببقائه في المنصب الذي عينه فيه قبل 14 شهرا.

موجة انتقادات

ثمة انتقادات تعرض لها الوزير يمكن تفهمها، ومنها أن وزارة التربية والتعليم «لا تدار عبر الرموز» وأن الوزير الجديد «يجهل عمل الماكينة الضخمة» التي هي الوزارة الكبرى، كما أنه «لا يعرف حقيقة صعوبات الحياة الحكومية والبرلمانية». وقد اعترف باب نديا بذلك الأربعاء، حين أكّد أنه «غريب عن الزمن السياسي الذي نعيش في ظله»، والذي عنوانه «الجمل القصيرة التي تدين».

أعضاء الحكومة الفرنسية في قصر الإليزيه الجمعة (رويترز)

وبعد شهر العسل الذي عرفه مع النقابات التي عبرت عن ارتياحها لتعيينه، جاء وقت الطلاق سريعا وتفاقم مع الحراك ضد مشروع تعديل سن التقاعد. ومن الملفات التي استخدمها معارضو الوزير، دعوته إلى تمكين «الاختلاط الاجتماعي والتعليمي» التي جعلها «أولوية سياسية». والمعروف أن دعوة من هذا النوع يرفعها اليسار باستمرار، إذ يرى فيها باباً لتمكين التلامذة والطلاب من أصول اجتماعية متواضعة من الارتقاء. لكن الوزير المجدد لم يلق دعما لا من رئيس الجمهورية ولا من رئيسة الحكومة أو من نظرائه. وكانت النتيجة أن أولويته الرئيسية بقيت في حيز العصف الذهني.

يبقى أن باب نديا عانى من مشكلة إضافية سببها أنه لم يكن حر الحركة بسبب الوصاية التي كان يمارسها الإليزيه على أنشطته، بحيث أنه لم يحظ بالسلطة التي تمكنه من التعامل مع الملفات الشائكة من موقع قوة، وخصوصا مع الجسم التعليمي. وفي أي حال، فإن خروجه من الحكومة يعني إلى حد ما سقوط رمز تجديدي أراده ماكرون لكنه لم يرعاه ليترك أثرا في وزارة تعد إدارتها من الأصعب في فرنسا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *